قصه سيدنا محمد صل الله عليه وسلم
الجزء الخامس
زواجه من السيدة خديجة رضى الله عنها
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تاجرا في مال السيدة خديجة، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام.
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان يدعى نسطورا،
فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال:
من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال له ميسرة:
هذا رجل من قريش من أهل الحرم.
فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي!
ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل عائدا إلى مكة ،
فكان ميسرة إذا كانت الظهيرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فربح الضعف أو قريبا.
ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه صلى الله عليه وسلم من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، وعرفت أنها وجدت ضالتها المنشودة ـ وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها، فتأبى عليهم ذلك
ـ فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منية، وهذه ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم تفاتحه أن يتزوج خديجة،
فرضي بذلك، وكلم أعمامه فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين من الإبل، وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة،
وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبا وثروة وعقلا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
وقد استأنف محمد عليه الصلاة والسلام ما ألفه بعد زواجه من حياة التأمل والعزلة. وهجر ما كان عليه العرب في احتفالاتهم الصاخبة من إدمان ولغو وقمار، وإن لم يقطعه ذلك عن إدارة تجارته،وتدبير معايشه، والضرب في الأرض والمشي في الأسواق. إن حياة الرجل العاقل وسط جماعة طائشة تقتضي ضروبا من الحذر والروية، وخصوصا إذا كان الرجل علي خلق عظيم يتسم بلين الجانب وبسط الوجه
بناء الكعبة وقضية التحكيم
ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة ،وذلك لأن الكعبة كانت عبارة عن حجارة مرصوصة ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل ،ولم يكن لها سقف ، فسرق بعض اللصوص كنزها الذي كان في جوفها ، وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرا قديما ـ للعوامل الجوية التي أضعفت بنيانها ، وصدعت جدرانها .
وقبل بعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم ، انحدر إلى البيت الحرام ،فأوشكت الكعبة منه على الانهيار فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصا على مكانتها ،واتفقوا على أن لا يدخلوا في بنائها إلا طيبا ،فلا يدخلوا فيها مهر بغي ،ولا بيع ربا ،ولا مظلمة أحد من الناس ،
وكانوا يهابون هدمها ، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومي ،وتبعه الناس لما رأوا أنه لم يصبه شيء ، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم ،ثم أرادوا الأخذ في البناء ،فجزأوا الكعبة وخصصوا لكل قبيلة جزءا منها فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة وأخذوا يبنونها ،وتولى البناء بناء رومي اسمه باقوم، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه
واستمر النزاع أربع ليال أو خمسا واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه ،وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه هتفوا : هذا الأمين رضيناه ، هذا محمد ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر طلب رداء ،فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف الرداء ،وأمرهم أن يرفعوه ، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وكان هذا حلا حصيفا رضى به القوم.
ولم تكف النفقة الطيبة التي أخرجتها قريش تكاليف البناء، فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع ،وهي التي تسمي بالحجر والحطيم ،ورفعوا بابها من الأرض لئلا يدخلها إلا من أرادوا ،ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعا سقفوه على ستة أعمدة
No comments:
Post a Comment