الجزء الثامن
الحبشه
كانت بداية الاضطهادات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة ثم لم تزل يوما فيوما وشهرا فشهرا حتى اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة ، حتى ضاق بهم المقام في مكة ،
وراحوا يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة، كان مكونا من اثني عشر رجلا وأربع نسوة ،رئيسهم عثمان بن عفان ، ومعه السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام .
كان رحيل هؤلاء تسللا في ظلمة الليل حتى لا تفطن لهم قريش، خرجوا إلى البحر ، واتجهوا إلى ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، وفطنت لهم قريش ، فخرجت في آثارهم ،لكن لما بلغت إلى الشاطئ كانوا قد انطلقوا آمنين ،وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار.
وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم ، وهناك جمع كبير من قريش ، كان فيه ساداتها وكبراؤها ،فقام فيهم ، وأخذ يتلو سورة النجم بغتة ، إن أولئك الكفار لم يكونوا سمعوا كلام الله قبل ذلك ،لأن أسلوبهم كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضا، من قولهم: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) [26:41] فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة ، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب، لا يحيط بروعته وجلالته البيان، بقي كل واحد مصغيا إليه ، لا يخطر بباله شئ سواه ، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب ثم قرأ ( فاسجدوا لله واعبدوا ) [62:53] ثم سجد ، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدا، وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين.
وأسقط في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لوى زمامهم ، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه ،وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب ، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير ، وأنه قال عنها: "تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" جاءوا بهذا الإفك المبين ، ليعتذروا عن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يستغرب هذا من قوم كانوا يؤلفون الكذب ، ويطيلون الدس والافتراء. وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة ،ولكن في صورة تختلف تماما عن صورته الحقيقية ، بلغهم أن قريشا أسلمت ، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة ، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار ، وعرفوا جلية الأمر ، رجع منهم من رجع إلى الحبشة ، ولم يدخل مكة منهم أحد إلا مستخفيا ، أو في جوار رجل من قريش .
ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش وسطت بهم عشائرهم ، فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار ،ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى ،وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها ، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها ، بيد أن المسلمين كانوا أسرع ويسر الله لهم السفر ، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا. وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلا ،وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة
قريش تحاول اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم
وبعد فشل قريش وخيبتهم مع أبي طالب عادوا إلى ضراوتهم وتنكيلهم بأشد مما كان قبل ذلك ، وخلال هذه الأيام نشأت في طغاتهم فكرة إعدامه صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه الفكرة وتلك الضراوة هي التي تسببت في تقوية الإسلام ببطلين جليلين من أبطال مكة، وهما: حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما.
فمن تلك الضراوة أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أكفر بـ (النجم إذا هوي) و (بالذي دنا فتدلى ) ثم تسلط عليه بالأذى ، وشق قميصه ، وتفل في وجهه ، إلا أن البزاق لم يقع عليه ، وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ،وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم ، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش ، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء ، فطاف بهم الأسد تلك الليلة ، فجعل عتيبة يقول : يا ويل أخي ، وهو والله آكلي كما دعا محمد علي، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام، فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فقتله. ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان .
ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل قال : قال أبوجهل : يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ،وتسفيه أحلامنا ،وشتم آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد .
فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ، ينتظرون ما أبوجهل فاعل ، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره ، حتى قذف الحجر من يده وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم ؟قال قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل ، ولا والله ما رأيت مثل هامته ، ولا مثل قصرته (أي عنقه) ولا أنيابه لفحل قط فهم بي أن يأكلني .
فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه . أما طغاة فريش فلم تزل فكرة الإعدام تنضج في قلوبهم ، روى ابن إسحاق عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن ،ثم مر بهم طائفا بالبيت ، فغمزوه ببعض القول ، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ، فأخذت القوم كلمته ، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد ،
ويقول : انصرف يا أبا القاسم ، فوالله ما كنت جهولا . فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به ، فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه ، وقام أبو بكر دونه ، وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟
وفاة أبي طالب
ألح المرض بأبي طالب ، فلم يلبث أن وافته المنية ،وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة بعد الخروج من الشعب بستة أشهر ولما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ،
فقال : أي عم قل : لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ،
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شئ كلمهم به : على ملة عبد المطلب
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ،فنزلت : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم )
ونزلت (إنك لا تهدي من أحببت ) ومع أن أبا طالب كان الحصن الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء ، إلا أنه بقي على ملة الأشياخ من أجداده ، فلم يفلح كل الفلاح .
ففي الصحيح عن العباس بن عبدالمطلب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما أغنيت عن عمك ، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟
قال :
هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.
No comments:
Post a Comment