البكاء.. تفاعل نفسي يبعث الراحة للأنسان
كلّنا، كأناس طبيعيين، مرت بنا حالات من البكاء (المُريح) و(الجيد)، سواء بعد انتهاء العلاقة مع إنسان عزيز أو في نهاية يوم عصيب بالتوتر والضغط، أو من حيرة التغلب على صعوبات الحياة أو غير ذلك.
وكان ذرْفنا للدموع آنذاك وسيلة لجلب العزاء والسلوان، وتخفيف الهمّ عن أرواحنا، ورفع مستوى ثقتنا بأنفسنا وثقتنا بُحسن طالع الخير في أقدارنا، ورؤيتنا الهموم الكبيرة، التي تسببت بضيقنا، كأمور صغيرة لا تستحق كل ذلك الحزن والاهتمام.
والسؤال التلقائي بُعيد مراجعة هذا الكلام الواقعي:
لماذا هذا البكاء «مفيد» و«جيد» لنا ؟.
وإن كان كذلك، فهل ثمة نوع آخر من البكاء «غير مفيد» و«سيئ» ويزيدنا همّا وحزنا وقلقاً وخوفاً ؟.
ولأن البكاء تفاعل نفسي، فإن الأطباء هم أحد أكثر من يرى ذلك التفاعل الإنساني على المرضى أو ذويهم.
ولأن البكاء تفاعل نفسي، فإن الأطباء أيضاً هم أقدر الناس في البحث عن ملابساته وجوانبه النفسية والدماغية، لذا لهم الحديث عن البكاء بشكل علمي دقيق، وفق ما توصلوا إليه من نتائج بحثية.
دراسة حديثة
وعلى الرغم من أن شهر ديسمبر، حمل الأعياد لكثير من البشر في هذا العام، إلا أن عدد هذا الشهر من مجلة الاتجاهات الحالية في العلوم النفسية Current Directions in Psychological Science، والصادرة عن رابطة العلوم النفسية بالولايات المتحدة APS، تضمن عرضا لدراسة فريق من الباحثين الأميركيين من جامعة جنوب فلوريدا والباحثين الهولنديين من جامعة تيلبيرغ، التي وصفت بعضاً من النتائج الحديثة لأبحاثهم حول «سيكولوجيا» علم نفسية البكاء crying.
وقام الباحثون بتحليل كافة التفاصيل التي تجمعت لديهم حول أكثر من 3000 حالة بكاء حديثة حصلت لدى أشخاص في حياتهم اليومية العملية والواقعية، أي خارج نطاق إجراء التجارب على البكاء في المختبرات، عبر تحفيز حصوله لدى هؤلاء الأشخاص.
وبالجملة توصل الباحثون إلى أن الحصول على فوائد، نفسية أو بدنية أو اجتماعية، من عملية البكاء، يعتمد بشكل كبير على ما الذي بعث على البكاء، وأين حصل ذلك، ومتى انتابت الشخص تلك النوبة المعينة من البكاء.
ووجد الباحثون أن غالبية الأشخاص المشمولين في الدراسة، حوالي 60%، وصفوا شعورهم بُعيد نوبة بكائهم، بأنه «تحسّن» و«ارتفاع» في مستوى المزاج النفسي والذهني. ومع ذلك، ذكر حوالي 30% أنهم لم يشعروا بذلك الإحساس النفسي الجيد والمُريح، بُعيد نوبة البكاء، إلا أن 10% ذكروا خلاف ذلك كله، حيث وصفوا إحساسهم بعد نوبة البكاء بأنه غدا أسوأ.
وبالمراجعة الأدق، وجد الباحثون أن الأشخاص المُصابين بحالات مزمنة من القلق والتوتر، هم أقل استفادة بالبكاء وأكثر شعوراً بعدم الارتياح بعده.
هورمونات التوتر
والبكاء كلمة يُقصد بها التعبير عن فعل ذرف الدموع تفاعلاً مع حالة نفسية يمر بها الإنسان. وما يُميز ذرف الدموع في البكاء، عن الأسباب الطبيعية الأخرى لخروج الدموع من الغدد الدمعية للعين، هو خلو البكاء من مهيجات تُثير أياً من أجزاء العين.
ومعلوم أن تعرض بعض أجزاء العين لعناصر مُهيجة، كالمواد الكيميائية أو الميكروبات أو الأجسام الغريبة، يُحفّز خروج الدموع من الغدد الدمعية للعين، وذلك كأحد وسائل حماية العين.
لكن في حالة البكاء، تُثار الغدد الدمعية عبر إشارات تصلها من مراكز في الدماغ معنية بالتفاعل العاطفي. ولا تزال الغالبية في الأوساط العلمية تعتقد بأن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يذرف الدموع تفاعلاً مع حالة عاطفية تعتريه، وأن الحيوانات بأنواعها لا تملك هذه السمة والميزة.
وتشير الدراسات الطبية الإحصائية إلى أن معدل بكاء الرجل هو مرة في كل شهر، ومعدل بكاء المرأة هو خمس مرات على أقل تقدير شهرياً. ويرتبط ارتفاع معدل بكاء المرأة بالتغيرات الهورمونية التي تعتريها بسبب الدورة الشهرية. أي دونما علاقة مباشرة بالحزن أو الاكتئاب أو الغضب.
وتشير المصادر الطبية إلى أن دموع البكاء، تختلف في النوعية عن الدمع الذي يخرج من العين في الأوقات الأخرى. وبالتحليل الكيميائي يُلاحظ ارتفاع نسبة هورمون «برولاكتين» وغيره من الهورمونات الأخرى ذات العلاقة بحالات التوتر، كذلك ارتفاع نسبة البوتاسيوم والمنغنيز.
وهناك من يرى أن احتواء دموع البكاء على كميات من عدة هورمونات مرتبطة بالتوتر وغيره، هو السبب وراء الراحة النفسية التي يشعر المرء بها بُعيد انتهاء نوبة البكاء. كما أن تفاعل الجسم مع تراكم وارتفاع نسبة هورمونات التوتر هو بالبكاء لتخليص الجسم منها.
والأسباب الباعثة على بكاء الإنسان الكبير أو الصغير، والذكر أو الأنثى، تتفاوت ما بين التفاعل مع إصابات بالألم في إحدى مناطق الجسم، أياً كان مصدر الألم، لتصل الأسباب إلى معان عاطفية مرتبطة بالتسبب في الألم النفسي أو الحزن أو الغضب أو حتى الفرح.
ولاحظ الباحثون أمراً مهماً، وهو أن الأشخاص الذين ينالون دعماً اجتماعياً، من شريك الحياة أو أحد الأقارب أو الأصدقاء، خلال نوبة البكاء، هم أكثر احتمالاً للشعور بالراحة والطمأنينة بُعيد ذلك.
وذكر الباحثون، في حيثيات دراستهم، أن العلماء حتى اليوم لم يتوصلوا إلى معرفة تفاصيل واضحة حول حقيقة فوائد البكاء. وفي جانب كان السبب وراء عدم اتضاح الصورة هو كيفية إجرائهم للدراسة العلمية حول البكاء.
وأضاف الباحثون، أن ثمة عدة تحديات معيقة للتوصل إلى دقّة في النتائج عند إجراء دراسات على البكاء في داخل المختبرات. ذلك أن هؤلاء المتطوعين للمشاركة في الدراسة بالمختبر، الذين يتم عليهم رصد البكاء وتأثيراته، لا يذكرون عادة أنهم أحسّوا بالتطهر والنقاء بُعيد نوبة البكاء التي تحصل نتيجة للتحفيز عليها في المختبر، كما لا يذكرون بأنهم شعروا بحال أفضل.
وعلى العكس، فإن تحفيز الإنسان على البكاء في داخل المختبر يجعله يشعر بالسوء بعيد ذلك. وعلل الباحثون ذلك، الذي ظهر في دراسات البكاء السابقة التي تمت في المختبرات، بأن الشخص يُعايش في المختبر ظروفاً مُجهدة وتتسبب له بالتوتر، مثل تصوير بكائه وما يصدر عنه آنذاك بكاميرات الفيديو، ومعلوم أن المرء الطبيعي يخجل عادة من رؤية الغير له وهو يبكي، ناهيك عن تسجيل ذلك له بالصوت والصورة.
ومثل إحساس المرء الباكي بأنه مُراقب من الباحثين ومن مساعديهم، ومعلوم أن هؤلاء قد لا يعنيهم ذلك الشخص وقد لا يتعاطفون مع مشاعره، وهو ما يعلمه الشخص الذي تُجرى عليه التجربة البكائية. وبالنتيجة فإن هذه المشاعر النفسية السلبية ستتغلب في أكثر الأحوال على المشاعر الإيجابية التي قد يُخلفها البكاء لدى الإنسان.
وهذا «الخلل» المنهجي لطريقة البحث حول تأثيرات البكاء، أي إجراء الدراسة عليه في المختبرات وعلى أشخاص تم تحفيز البكاء لديهم بطريقة اصطناعية، هو في الغالب ما أدى إلى عدم توصل الباحثين إلى نتائج تُقارب الواقع المُشاهد في استفادة الكثيرين من البكاء، خاصة عند توفر التعاطف الاجتماعي معهم حال ذلك.
ومع ذلك، فإن دراسات البكاء هذه التي تمت في المختبرات، قدّمت لنا نتائج لافتة للنظر ومهمة حول التأثيرات العضوية الفسيولوجية للبكاء في مختلف أجهزة وأعضاء الجسم.
ومن ذلك أن البكاء له تأثير مُهدئ ومُسكن للتنفس، وله أيضاً تأثيرات غير مُريحة، كزيادة نبضات القلب وزيادة إفراز العرق والتوتر. لكن ما توصلت الدراسات السابقة إليه في الجانب العضوي أن التأثيرات المُسكّنة للبكاء تستمر فترة أطول من التأثيرات غير المُريحة.
وهذا ما يُبرر لنا سبب تذكر الناس الجانب المُريح للبكاء ونسيانهم الجانب غير المُريح فيه.
المجتمع وبكاء الكبار
ومما هو ملاحظ أن المجتمعات لا تتقبل بكاء الشخص البالغ، أسوة بتقبلها بكاء الطفل الصغير. وتزداد الأمور تعقيداً في بعض المجتمعات عند تفشي اعتقاد أفرادها أن البكاء للنساء وللأطفال فقط، وتراه من «العيب» على الرجل بالذات.
وكانت البروفيسورة ستيفاني شيلدس، المتخصصة في علم النفس ودراسات المرأة بجامعة ولاية بنسيلفينيا، قد أجرت دراسة حول توقعات البكاء لدى الجنسين. وأضافت نتائج دراستها ضمن الفصل الخاص بالبكاء لدى الجنسين في كتابها «الدوافع المحركة للمجموعات والتعبير عن المشاعر»، الذي صدر في سبتمبر عام 2005.
وقالت إن إثارة حصول البكاء بالمشاعر العاطفية، هو إحدى الصفات المميزة للبشر، ودموع الشخص البالغ يُمكنها أن تكون وسيلة قوية للحصول على اهتمام وعطف الغير. لكننا نجد أن الدموع مثيرة للريبة أو الازدراء بخصوص الدوافع والمحفزات لدى الشخص الباكي.
ووفق ما قالته، فإن الدموع حينما تُذرف، يكون لها تأثير قوي في الآخرين. وقوية لدرجة أن البكاء يُفهم على أنه ليس فقط تعبير عن مشاعر داخلية، بل أيضاً كنوع من الاتصال الاجتماعي.
والطريقة التي يتم بها الحكم على الدموع، من قِبل الآخرين، تتأثر بعدة عوامل لدى الباكي ولدى الشخص الذي يراه. وذلك مثل ما إذا كان البكاء ناتجاً عن غضب أو عن حزن. وربما الأهم في تلك العوامل هو تحليل ما يقرأه الشخص المُشاهد لدموع البالغ حينما يبكي في كونها إما حقيقية وصادقة أو أنها تلاعب وزيف.
وترى البروفيسورة شيلدس بأن ثمة تحولاً حصل في السنين القليلة الماضية عن نظرة الحكم بالاستنكار لبكاء الرجل. وهي النظرة التي أكدت الدراسات النفسية شيوعها بين الناس في ثمانينات القرن الماضي.
وأضافت بأن اليوم يُنظر إلى دموع النساء والرجال على أنها مقبولة في الحالات الشديدة، كوفاة الحبيب أو انتهاء علاقة عاطفية، التي لا قدرة للإنسان على ضبط تفاعله العاطفي إزاءها.
بينما تظل غير مقبولة في الحالات الأقل شدة، كتحطم الكومبيوتر أو اصطدام السيارة. لذا لاحظت الباحثة في دراستها أن النظرة الاجتماعية اليوم نحو الدموع هي إيجابية بغض النظر عن نوع جنس ذارفها، أو العرق الذي ينحدر منه، أو الدافع العاطفي لذلك، سواء كان الغضب أو الحزن.
وقالت الباحثة إن هناك بالطبع عدة درجات للبكاء، وتتراوح بين بكاء محبوس ومكتوم تغرق العين فيه بالدمع moist-eye، من دون ذرف دموع كثيرة للخارج، وبين بكاء بصراخ ودموع غزيرة.
وكيفية بكاء الشخص هي ما تجعل هناك فرقاً في النظرة إليه. ويُعتبر البكاء المحبوس والقليل الدموع، دليلاً على أن ثمة ضبطاً قوياً للمشاعر.
وأكدت الباحثة أن نتائج دراستها أشارت إلى نظرة الغير إلى الرجل أو المرأة تكون أكثر إيجابية في التقدير حينما تُذرف دموع قليلة، مقارنة بالبكاء الواضح. وتحديداً قالت بأن الرجل يقدر بشكل أكبر على هذا النوع من البكاء.
دموع العين .. أنواع مختلفة ومهام متعددة
تُعتبر الدموع التي تُنتجها الغدد الدمعية للعين، وسيلة حماية للعين، وربما للجسم كله. وهناك ثلاثة أنواع من الدموع التي يُمكن للغدد الدمعية إفرازها، في حالات مختلفة من حياة الإنسان اليومية، وهي:
1 ـ الدموع الأساسية
وفي الإنسان والحيوانات الثديية، تحتاج قرنية العين إلى أن تبقى رطبة دائما، وذلك لضمان سلامتها وحفظ تركيبها الشفاف المهم. والقرنية هي الجزء الشفاف من مقدم العين المُشاهدة، وتُغلف الحلقة القزحية الملونة لأعين الناس بألوان مختلفة. وعملية ترطيب القرنية تتم عبر الإفراز المتواصل لـ«الدموع الأساسية».
كما أن تلك الإفرازات الدمعية تعمل على غسل القرنية والملتحمة من أية أجسام غريبة تعلق بها، كالغبار وغيره. والملتحمة هي طبقة من الأنسجة تُغطي الجزء الأبيض من العين المُشاهدة.
وسائل «الدموع الأساسية» يحتوي على الماء، ومادة ليوسين اللزجة والدهون و«أجسام مضادة» ومادة «لايسوزوم» وسكر الغلوكوز وعناصر اليوريا والصوديوم والبوتاسيوم. وعلى سبيل المثال، تعمل مادة «لايسوزوم» على مقاومة البكتيريا عبر قدرتها على إذابة وتحليل الغطاء الخارجي لأنواع من البكتيريا.
ويتطابق سائل «الدموع الأساسية» في مكوناته من الأملاح، كالصوديوم والبوتاسيوم وغيرهما، مع درجة ملوحة سائل بلازما الدم. والطبيعي، أن تُفرز الغدد الدمعية خلال الـ24 ساعة ما يُقارب ربع لتر. وتقل كمية هذه الدموع مع التقدم في العمر أو في حال وجود بعض الأمراض بالجسم.
2 ـ دموع ردة الفعل
وهذا النوع من الدموع يتم إفرازه كردة فعل لتهييج العين بأجسام غريبة أو بمواد كيميائية مُهيجة، مثل دخول شعرة في ما بين الجفون أو تعرض العين لغازات صادرة عن البصل أو غيره.
كما يُمكن أن تتهيج العين بتعرضها لوهج ضوء شديد أو أكل الفلفل الحار أو الأطعمة الساخنة جداً أو أثناء عملية القيء أو السعال الشديد. والغاية من هذه الدموع غسل العين مما ألمّ بها.
3 ـ دموع البكاء
وهذا النوع من الدموع يتم إفرازه نتيجة للتعرض لألم جسدي أو عاطفي أو نفسي، أو حتى عند الشعور بالسعادة العارمة. وغالباً ما يُصاحب عملية إفراز دموع البكاء، احمرار الوجه والنشيج sobbing وانقباضات في النصف العلوي من الجسم.
والنشيج هو فعل متكرر شبيه بالسعال ويشمل نوبات من التنفس المتشنج، خلال نوبة البكاء. وتصدر خلاله أصوات مختلفة الحدة والارتفاع. ومكونات الدمع الصادر خلال البكاء تختلف عن مكونات دمع الترطيب الأساسي أو دموع ردة الفعل.
ذلك أن دموع البكاء تحتوي هورمونات بروتينية، مثل «برولاكتين» و«هورمون الغدة جار الكلوية» وعلى مادة طبيعية مخففة للألم تُدعى «ليوسين إنكفيلاين» .
بين «دارون» ودموع البشر عند البكاء ملاحظات علمية مهمة
ذرف الدموع مع حالة البكاء، شيء يتميز به الإنسان عن باقي المخلوقات الحية، وهذا لا يعني أن عيون الحيوانات لا تفرز الدموع حال تعرضها لمواد مُهيجة لإفراز الدمع.
وبالرغم من توثيق «تشارلز دارون» هذه المعلومة في كتابه الشهير «التعبير عن المشاعر لدى الإنسان والحيوانات»،
وبالرغم من ذكره أن بكاء الطفل الرضيع مفيد في لفت الانتباه إليه للاهتمام به من قِبل الوالدين، إلا أنه استنتج، دونما أدلة علمية ساقها، أن ذرف البشر للدموع هو شيء عديم الجدوى!، وشبه ذرف الدموع حال البكاء بوجود الزائدة الدودية في أمعاء الإنسان.
ومعلوم أن ثمة رأيا علميا، من المشكوك في صحة التسليم به، يقول بأن الزائدة الدودية عديمة الجدوى لأنها لا تفعل شيئاً مفيداً لجسم الإنسان ولا لجهازه الهضمي.
والغريب في الأمر هو تناقض التفكير لدى «دارون»، لأن في رأيه بقيت الزائدة الدودية في جسم الإنسان بعد تطوره من «حيوان» إلى «إنسان»، بينما ذَرْف الدموع أمر إضافي زائد يتميز به البشر عن الحيوانات.
ويُمكن أن يكون كلامه صحيحاً لو أن الحيوانات هي التي تذرف الدمع حال البكاء، بينما لا يفعل ذلك البشر، أو على أقل تقدير لو أن الحيوانات تذرف الدمع كما الإنسان. لذا كان خروج الدموع مع البكاء «مشكلة» حقيقية لـ«دارون» في تسويق نظريته البالية.
وتبنى اللجوء إلى أسلوب «الحيدة» حينذاك، وأظهر القول بعدم فائدة ذرف الدموع حال بكاء الإنسان. وهذا الخطأ في الفهم والتعليل، يتناقض تماماً مع ما بدأت تُشير إليه نتائج الدراسات الطبية حول اختلاف مكونات دموع البكاء عن أي مُثيرات أخرى لإفراز الدموع من العين، خاصة في جانب احتواء دموع البكاء على هورمونات التوتر.
وعمل الدموع على تخليص الجسم من هذه الهورمونات المتسببة في التوتر حال تجمعها في الجسم. وعليه فإن من إحدى آليات استفادة الإنسان من البكاء وذرف الدموع معه هي تلك الراحة النفسية التي يشعر الشخص الباكي بها بُعيد انتهاء نوبة البكاء.
وربما كان الأولى بـ«دارون» القول بأن هناك بكاء دون ذَرْف للدموع. وفي هذا تُشير عدة مصادر لعلم الحيوان إلى أن حيوانات عدة، مثل الجمل والشمبانزي والفيل والكلب والدبّ، لديها القدرة على ذَرْف الدموع.
إلا أن هذه الدموع لا إثبات علمي على أن خروجها من أعين هذه الحيوانات ذو علاقة بأي حالة عاطفية تمر بها، أي ليست مُصاحبة للبكاء أو الشعور بالألم. ولأحدهم أن يُجادل في الأمر، مثلما فعل «توم ليوتز» في كتابه المشهور «البكاء: التاريخ الطبيعي والثقافي للدموع»، بقوله «من المستحيل الجزم بما إذا كان الحيوان الذي يذرف الدموع متألماً باكياً، أو أن عينيه تذْرفان الدموع بسبب تعرضهما لمواد مهيجة لهما.
والواقع أن هذا «المستحيل» ليس مستحيلاً، بل هو ممكن لمن تأمل بدقة». وحينما «لا يُشترط» خروج الدموع كعلامة للبكاء، فإن كثيراً من الحيوانات ربما تبكي لمّا تُخرج أصواتا تدل على «حزنها».
وذلك ما يُلاحظ عند إبعاد صغار العصافير أو الحيوانات الثديية عن أمهاتها. وبالذات يُلاحظ أن صوت الدبّ الصغير حال إبعاده عن أمه، هو أشبه بصوت الطفل الصغير حال بكائه. هذا بالرغم من عدم ذَرْف الدبّ الصغير ذاك أي دموع حال «نحيبه» و«بكائه» على فراق أمه.
No comments:
Post a Comment