{ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }
وما معنى البخل؟ إنه مشقة الإعطاء.
فعندما يقطع حاجة من خاصة ماله ليعطيها لغيره يجد في ذلك مشقة ولا يقبل عليها،
لكن الكريم عنده بسط يد، وأريحية. ويرتاح للمعروف
إذن فالبخل معناه مشقة الإعطاء،
وقد يتعدى البخل ويتجاوز الحد بضن الشخص بالشيء الذي لا يضر بذله ولا ينفع منعه؛ لأنه لا يريد أن يعطي.
وهذا البخل والشح يكون في نفس البخيل؛
لأنه أولاً قد بخل على نفسه، فإذا كان قد بخل على نفسه، أتريد أن يجود على الناس؟
والشاعر يصور بخيلاً اسمه " عيسى " ويريد أن يذمه؛ لأنه بخيل جداً، ويظهر صورة البخل بأنه ليس على الناس فقط بل على نفسه أيضاً، فيما لا يضر بذله ولا ينفعه منعه.
وما دام يقتر على نفسه فسيكون تقتيره على غيره أمراً متوقعاً
إنه بخيل لدرجة أنه يفكر لو استطاع أن يتنفس من فتحة أنف واحدة لفعل؛ حتى لا يتنفس بفتحتي أنفه.
والشاعر الآخر يأتي بصورة أيضاً توضح كيف يمنع البخيل نفسه من الأريحية والإنسانية فيقول:
لو أن بيتك يا بن عم محمد إبر يضيق بها فضاء المنزل وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ليخيط قد قيمصه لم تفعل
فالشاعر يصور أن سيدنا يوسف لو جاء إلى هذا البخيل وقال له: أعطني أبرة لكي أخيط قد القميص الذي مزقته زِليخاء، وهذا البخيل عنده بيت يمتلئ فِناؤه بالإبر، لضن البخيل ورفض.
إذن فالبخيل: هو من يضيق بالإعطاء، حتى أنه يضيق بإعطاء شيء لا يضر أن يبذله ولا ينفعه أن يمنعه
ويقول الله تعالي عن البخلاء:
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
[آل عمران: 180].
فالحق يجعل للبخيل مما بخل به طوقاً حول عنقه، ولو أن البخيل قد بذل قليلاً، لكان الطوق خفيفاً حول رقبته يوم القيامة.
لكن البخيل كلما منع نفسه من العطاء ازداد الطوق ثقلاً.
ولقد قال الحق أيضاً عن الذين يكنزون الذهب والفضة:
{ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }
[التوبة: 34-35].
فإن كان اكتنازهم لكميات كبيرة فما سيحمى على النار منها يكون كثيراً، ويكوَوْن به.
إذن فالإنسان لا بد أن يخفف عن نفسه الكيّ، والذين يبخلون لا يكتفون بهذه الخسيسة الخلقية في نفوسهم بل يحبُّون أيضاً أن تتعدى إلى سواهم كأنهم عشقوا البخل،
ويؤلمهم أن يروا إنساناً جواداً؛
يقول لك البخيل:
لا تنفق؛ لأنه يتألم حين يرى إنساناً جواداً، ويريد أن يَكون الناس كلهم بخلاء؛ كي لا يكون أحد أحسن منه.
إنه يعرف أن الكرم أحسن، بدليل أنه يريد أن يَكون الناس كلهم بخلاء،
والبخل: ضن بما أوتيته على من لم يُؤت.
وهل البخل يكون في المال فقط؟.
لا، بل يكون في كل موهبة أوتيتها وتنقص عند غيرك ويفتقر إليها، إن ضننت بها فأنت داخل في البخل.
إن الذي يبخل بقدرته على معونة العاجز عن القدرة،
والذي يبخل بما عنده من علمٍ على من لا يعلم، هذا بخل،
والذي يبخل على السفيه حتى بالحلم هذا بخل أيضاً،
فإن كانت عندك طاقة حلم فابذلها.
إذن فالبخل معناه:
أنك تمنع شيئا وهبه الله لك عن محتاجه، معلم - مثلا - عنده عشرة تلاميذ يتعلمون الصنعة، ويحاول أن يستر عنهم أسرار الصنعة؛ يكون قد بخل.
{ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ }
والآية معناها يتسع لكل أمر مادي أو قيمي.
ثم سبحانه يقول:
{ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ }
الكتم معناه: منع شيء يريد أن يخرج بطبيعته،
وكما يقولون: اكتم الدم فلو لم تكتمه يستطرق.
كأن المال أو العلم يريد أن يخرج للناس ولكن أصحابه يكتمونه.
{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ }
[الدخان: 29].
فالسماء والأرض لهما بكاء، ليس بكاء دموع إنما بكاء يعلم الله كنهه وحقيقته، إذن فقوله: { وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ }.
كأنه يقول: ما آتاه لك الله من فضله ليس ملكك، وليس ذاتية فيك، فأنت لم تأت به من عندك. وانظر إلى الكون حولك تجده كله أغيارا، ألم تر في حياتك قادراً أصبح عاجزاً؟
ألم تر غنياً أصبح فقيراً؟
فالدنيا دول، وما من واحد إلا ويمر أمام عينيه وفي تاريخه وفي سماع من يثق بكلامه أنه " كان " هناك غنيٌّ ثم صار فقيراً
{ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }
انظر ماذا فعل فيه البخل،
إنه جعل صاحبه كافراً؛ لأن البخيل ستر نعمة كان من الممكن أن تتسع له ولغيره،
البخيل هو عدو ماله
لأنه لم يستطيع أن يثمره
ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث:
" إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمةٍ جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال،
ويؤتي بصاحب المال.... "
البخيل عندما يُكَثَّر ماله يكون قد حرّم على نفسه هذا المال
ثم يأتي ابن له يريد أن يستمتع بالمال،
ولذلك يقال في الريف: مال الكُنزي للنزُهي،
ولا أحد بقادر أن يخدع خالقه أبداً!!
فسبحانه يوضح:
أنا أعطيتك نعمة أنت لم تعطها لأحد،
لكني سأيسر السبيل لطائع لي،
إياك أن تظن أنك خدعتني عندما بخلت،
فبخلك يقع عليك.
إذن فأنت قد ضيقت رزقك بالبخل
ولو أنفقت لأعطاك الله خيراً كثيراً "
وما أنفقتم من شيء فهو يخلقه "
لكنك تركته لورثتك وسيأخذونه ليكون رزقهم متسعاً،
وأيضاً فإنك حين تمنع المال عن غيرك فأنت قد يسرت سبيلاً لمن يبذل.
كيف؟
لنفترض أن إنساناً كريماً، وكرمه لا يدعه يتوارى من السائل، والناس لها أمل فيه.
فإن كان عنده " فدانان "
فهو يبيع فداناً ليفرج به على المحتاجين
وعندما يبيع الفدان سيشتريه منه من يكتنز المال،
فيكون المكتنز قد يسَّر سبيلاً للكريم بشرائه الفدان منه واعطاءه النقود التي يستخدمها الكريم في مساعده المحتاج
فإياك أن تظن أنك قادر على خداع من خلقك وخلق الكون وأعطاك هذه النعمة
وهذا يشبه صاحب السيئة الذي منّ الله عليه بالتوبة والرجوع إلى الله،
إننا نقول له: إياك أن نعتقد أنك اختلست شهوة من الله أبداً.
أنت اختلست شهوة ستلهبك أخيراً و ستدفع ثمنها
وتجعلك تفعل حسنات مثلها عشرين مرة،
لأنه سبحانه قد قال:
{ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ }
No comments:
Post a Comment